مدخل إلى الشعر الحدیث (١) بین الثوره والحداثه ثوره الشعر الحدیث هو العنوان الذی وضعته لهذا الکتاب. ولا شک أن کلمه «الحداثه» تحتاج إلى تحدید. أما الثوره فهی فی بنائه وظواهره العامه التی أرجو أن یوضحها الکتاب بشیء من التفصیل. ومهما یکن اختلافنا فی تحدید معنى الحداثه فلا شک أننا سنتفق على أن هذا الکائن اللغوی الحی الذی نسمیه بالقصیده یدین لصاحبه بالوجود کما یدین للعصر الذی عاش فیه، وللجو الفکری والحضاری الذی تنفس هواءه. فنحن عندما نتذوق القصیده نرجع تجربتنا الجمالیه إلى عبقریه الشاعر الفردیه وإلى شیء آخر قد نسمیه روح العصر، أو تجربته وجوه العام، شیء تأثر به هذا الشاعر کما تأثر به غیره من الشعراء المعاصرین له سواء أکان هذا التأثیر سلبًا أم إیجابًا وسواء کان یسیر فی اتجاه العصر أو فی عکس اتجاهه. إن العصر الحدیث بالمعنى الواسع لهذه الکلمه قد بدأ مع بدایه الثوره الصناعیه باکتشاف القوى البخاریه والمائیه، ومضى الإنسان الحدیث فی حربه المستمره للانتصار على الطبیعه واستغلالها لمصلحته وتجریدها من کل أسرارها وألغازها، حتى وصل به إلى قمه القلق على حیاته ومصیره مع اکتشاف الطاقه الذریه. ولقد تغیرت نظره الإنسان إلى الطبیعه والله کما تغیرت نظرته إلى نفسه وإلى المجتمع البشری فی خلال القرنین الأخیرین تغیراتٍ کبیره صاحبت ثوراته الصناعیه والاجتماعیه والدینیه والعقلیه أو تأثرت بها ونتجت عنها، وانعکست بالضروره على وجدانه الفنی وظهرت فی تعبیره الشعری فیما یمکن أن نسمیه بثوره الشعر الحدیث أو ثوراته المتعدده. فحین کان الناس من حوله مشغولین بالواقع الخارجی وبالسیطره على الطبیعه، وبناء المصانع والمدن الحدیثه واستغلال الأرض وإنتاج المزید من البضائع، کان الشاعر یقف من ذلک موقف المؤید حینًا أو المعارض فی معظم الأحیان، فیمجد التغییر السیاسی والاجتماعی مرهً أو ینصرف إلى تأمل ذاته واستکشاف عالمها الباطن المستتر فی اللاشعور أو الرمز أو الأسطوره مراتٍ. وکل من ینظر إلى تطور الفکر والحضاره فی المائه والخمسین سنه الأخیره لا بد أن یلاحظ مدى التغییر وعمق الاکتشافات التی تمت فی هذین المجالَین فی وقتٍ واحد. فی مجال المجتمع والطبیعه، وفی مجال النفس والواقع الداخلی. وطبیعی أن هذا التطور فی اکتشاف العالم الباطن قد سار فی تیاراتٍ معقده، وأنه کان یختلف فی أوروبا وأمریکا من حیث العصر والمزاج والحرکه الأدبیه التی یرتبط بها هذا الشاعر أو ذاک، ولکن هذا التطور أو هذه الثوره کانت تسیر فی حلقاتٍ متتابعه ینبع أحدها من الآخر، فالرومانتیکیه کانت کامنه فی الکلاسیکیه التی أرادت أن تبعث القدیم وتطوره، والرمزیه هی ذروه النضوج التی وصلت إلیها الرومانتیکیه المزدهره فی إنجلترا وفرنسا وألمانیا، والواقعیه کانت رد فعل للرمزیه على اختلاف أشکالها واتجاهاتها. والشاعر، الذی خلع عن نفسه صفه الناظم إلى الأبد! یحاول فی أثناء هذا کله أن یکتشف مجاهل نفسه وعالمه الباطن کما یکتشف لغته ویعید بناءها لتکون قادره على الإیحاء بعالمه الجدید، صحیح أن هذه التیارات والمدارس تختلف فیما بینها باختلاف البلاد والطبائع الفردیه، کما أن لکل منها خصائصه المعقده المتمایزه، وشعراءه المختلفین عن بعضهم البعض أشد الاختلاف، إلا أننا نستطیع أن نقول بوجهٍ عام إن حرکه اکتشاف الواقع الخارجی التی کادت تصل إلى نهایتها — على الأقل من ناحیه السطح والظاهر — لم تستطع فی مجال الواقع الداخلی أن تنتهی من اکتشاف عالم اللاشعور أو «أفریقیا الباطنه» کما یسمیه الکاتب الألمانی «جان باول».١ ولعل الأقرب إلى الصواب أن نقول إن کل محاولات الاکتشاف الجریئه التی یقوم بها الشعراء منذ قرن ونصف قرن لم تزد «أفریقیاهم» هذه إلا سوادًا وکثافه فی الوقت الذی فرغ فیه زملاؤهم الجغرافیون من اکتشاف أفریقیا من زمنٍ طویل، حتى لم یعد أحد یجرؤ الیوم على تسمیتها بالقاره السوداء. (٢) نشاز وشذوذ الصوره التی یقدمها لنا الشعر الحدیث صورهٌ جذابه بقدر ما هی محیره؛ إنها تزخر بالألغاز والرموز والمفارقات، ولکنها تحفل کذلک بشخصیات لا یمکن تجاهلها، ونماذج لا یمکن الشک فی روعتها وأصالتها، وإنتاجٍ مثیرٍ خصب یدل على أن الشعر الحدیث والمعاصر لا یقل شأنًا عن الفلسفه أو الروایه أو المسرح أو الفنون التشکیلیه فی قدرته على التعبیر عن روح عصرنا ومشکلاته وأزماته. ولو تأملنا مثلًا إنتاج الشعراء الألمان ابتداء من رلکه فی مرحلته المتأخره إلى شاعر التعبیریه تراکل، أو الشعراء الفرنسیین من أبوللینیر إلى سان-جون بیرس ورینیه شار، أو الإسبان من جارثیا لورکا إلى جیان، أو الإیطالیین من بالاتسیسکی إلى أنجارتی، أو الإنجلیز من ییتس إلى إلیوت، لاقتنعنا بأهمیته وخطورته، وسحره وغموضه، وتعقیده وطرافته فی آنٍ واحد. إن القارئ یدخل معهم فی تجربه تضع یده — ربما عن غیر قصد منه — على روح هذا الشعر وطابعه الممیز؛ فهو یؤخذ بغموضه بقدر ما یحار فی فهمه، وهو ینجذب نحوه بقدر ما یصدم فیه، والسحر الذی ینبعث من کلماته الحافله بالأسرار یأسره ویفرض نفسه علیه، ولکنه یضله فی متاهاته ویقطع علیه کل طریق للفهم أو المشارکه أو التذوق بمعناه القدیم. ولیأذن لنا القارئ منذ البدایه أن نسمی هذا المزیج من الغموض والسحر تسمیه نستعیرها من لغه الموسیقى فنصفه «بالنشاز» فإن سأل: وما معنى النشاز فی هذا المقام! قلنا: لعله نوع من التوتر یمیل إلى القلق والاضطراب أکثر مما یمیل إلى الراحه والتجانس والاطمئنان، ولعله کذلک أن یکون طابع الفنون الحدیثه وهدفها بوجهٍ عام. ومن أوضح ما یدل علیه هذه العباره التی یقولها الموسیقى الأشهر إیجور سترافتسکی فی کتابه عن «فن الموسیقی (١٩۴٨م)»: «ما من شیء یلزمنا بالتفتیش عن المتعه فی الهدوء وحده، فالأمثله تتراکم منذ أکثر من قرن من الزمان لتقدیم أسلوبٍ استقلَّ فیه النشاز بنفسه تمام الاستقلال وأصبح شیئًا فی ذاته، وهکذا اتفق أنه لا یمهد لشیء ولا یعلن عن شیء؛ فلیس النشاز دلیلًا على الاضطراب ولا التناغم ضمانًا للنظام والیقین.» هل تصدق عباره سترافتسکی کذلک على الشعر الحدیث؟ هذا ما سوف تحاول الصفحات القادمه الإجابه علیه. فغموض الشعر الحدیث غموضٌ متعمد مع سبق الإصرار. ولقد قال إمام هذا الشاعر ورائده بودلیر: «إن فی تعذر الفهم نوعًا من المجد.» وشاعر آخر من أبرز ممثلی هذا الشعر مثل «جوتفرید بن» یقول: «إن الشعر هو الارتفاع بالأمور الحاسمه إلى لغه المستحیل على الفهم، والفناء الکلی فی أشیاء تستحق ألا یقتنع بها أحد.» ویخاطب سان-جون بیرس الشاعر فیقول بلغته الصوفیه الفیاضه بالوجد والحماس: «یا صاحب اللغه المزدوجه بین أشیاءَ متطرفه فی الازدواج، یا من تمثل الصراع بین کل ما یعیش فی الصراع، وتتکلم بعدید المعانی کإنسان ضل فی الکفاح بین الأجنحه والأشواک!» ویعود الشاعر الإیطالی مونتاله فیقول: «لو کانت مشکله الشعر هی أن یکون صاحبه مفهومًا لما کتب أحد بیتًا واحدًا من الشعر!» لا مناص إذن من أن یعود القارئ عینَیه على الظلام الذی یحیط بهذا الشعر. لا مفر من أن یدرک منذ البدایه أنه شعر یبتعد بقدر ما یستطیع عن نقل المعنى الواضح والتعبیر عن المضمون الذی لا خلاف حوله. إن القصیده الجدیده ترید أن تکون شیئًا مکتفیًا بذاته، کیانًا یشعُّ دلالاتٍ عدیده، نسیجًا من عناصرَ متوتره، میدانًا تتصارع فیه قوًى مطلقه تؤثر بالإیحاء على طبقات من النفس لا صله لها بالعقل — سابقه علیه أو متجاوزه له — وتمد أثرها على مناطق الأسرار المحیطه بالأفکار والکلمات فتشیع فیها الرعشه والرفیف. ولا یقتصر هذا التوتر أو هذا النشاز فی القصیده الحدیثه على هذا. إنه یتجلى کذلک من ناحیهٍ أخرى. فالقصیده تجمع فی الغالب بین عالمَین متعارضَین، وتبدو کالوجه الواحد الذی یضمُّ ملامحَ متباینه، فهناک ملامح تنحدر من أصولٍ صوفیه أو طقوسیه أو مرتبطه بعبادات الأسرار، تقابلها فی الجانب الآخر ملامح النزعه العقلانیه الحاده، والعباره البالغه البساطه ذات المضمون المرکَّب المعقَّد البالغ التعقید، والدقه والتحدید مع العبثیه والاستحاله، والبواعث والأغراض التافهه الضئیله الشأن فی أسلوبٍ فوَّار بالحرکه والعنف. وقد تکون هذه جمیعًا أنواعًا من التوتر الشکلی، لا یقصد بها إلى أبعد من الشکل، ولکنها تترک أثرها على المعنى والمضمون وتظهر فیهما بصوره أو بأخرى. والقصیده الحدیثه حین تلمس الواقع أو جوانب منه فی البشر أو فی الأشیاء، لا تتناوله تناولًا وصفیًّا ولا تقف منه موقفها من شیءٍ مألوف فی الرؤیه أو الشعور، بل تنقله إلى صعید المذهل غیر المألوف، کما تشوِّهه وتغرُّ به، إذا صحت هذه الکلمه التی شاعت فی السنوات الأخیره، ولذلک یستحیل أن تقاس بما نصفه عادهً بأنه الواقع، بل هی لا ترید ذلک مهما وجدنا فیها من أجزاء الواقع أو بقایاه، لأنها لا تلجأ إلیها إلا کوسیله للانطلاق إلى آفاقها الحره. إن الواقع فی هذه القصیده قد تخلَّص من نظامه المکانی والزمنی والموضوعی والنفسی، کما تحرر من تلک التفرقه التی لا نستغنی عنها فی توجیه نظرتنا العادیه إلى الأمور، وأعنی بها التفرقه بین الجمیل والقبیح، والقریب والبعید، والنور والظل، والألم والفرح، والأرض والسماء. کان المفهوم الذی حددته الرومانتیکیه للشعر (وإن کان من الخطأ تعمیم هذا المفهوم) هو أنه لغه الوجدان، والتعبیر عن الذات الفردیه. وکلمه الوجدان هنا تعنی الرجوع إلى المألوف، والسکون إلى وطن النفس الذی یشترک فیه أکثر الناس انفرادًا مع کل من یشعر ویحسُّ، ولکن القصیده الجدیده تحس بالغربه أعمق إحساس، وتنفر من اللجوء إلى هذا الوطن الساکن المطمئن. إنها تبتعد عن «الإنسانیه» أو «البشریه» بمعناهما المصطلح علیه، وتصرف النظر عن التجربه والعاطفه، بل تذهب فی کثیر من الأحیان إلى البعد عن ذات الشاعر نفسه. لم یعد هذا الشاعر یشارک فی قصیدته مشارکه الذات الفردیه أو الشخصیه، بل مشارکه عقل مبدع، وصانع لغه، وفنان یجرب خیاله المتسلط أو نظرته غیر الواقعیه على مادهٍ فقیره من المعنى، عرضت له کیفما اتفق. ولا یعنى هذا بالضروره أن قصیده من هذا النوع لا توقظ سحر النفس المکنون أو لا تنبع منه، بل معناه أنها أصبحت شیئًا آخر یختلف عما نسمیه بالقصیده الوجدانیه، وأنها تستخدم لغهً أخرى غیر اللغه التی اصطلحنا على وصفها بلغه الوجدان. لقد أصبحت لحنًا متعدد الأصوات والأنغام وصورهً مطلقه من الذاتیه المحضه الخالصه التی لا یمکن تجزئتها إلى قیمٍ شعوریهٍ مفرده. یقول جوتفرید بن، وهو أحد السحره الکبار فی معبد الشعر الحدیث: «الوجدان؟ إننی لا أملک شیئًا منه.» وهو کغیره لا یکاد یجد أثرًا لنعومه الوجدان أو رخاوه العاطفه حتى یقطعه بسکین العقل، ویمزقه بالکلمات القاسیه الناشزه. باستطاعتنا إذن أن نتحدث عن نزعهٍ درامیهٍ عدوانیه فی الشعر الحدیث. إنها تکمن فی العلاقه بین الموضوعات أو البواعث (الموتیفات) التی تتقابل تقابل الأضداد بدلًا من أن تتصل وتتلاقى بنظام واطراد. وهی تکمن کذلک فی العلاقه القائمه بین هذه الموضوعات والبواعث وبین الأسلوب القلق الذی یفرق ما وسعته التفرقه بین الدلالات والمدلولات. ولکن هذه النزعه الدرامیه العدوانیه تحدد کذلک العلاقه بین القصیده والقارئ. فکثیرًا ما تصدم القصیده قارئها فیشعر أنه یتلقى منها الإنذار بالخطر بدلًا من أن ینعم بالأمان! صحیح أن لغه الشعر کانت وستظل على الدوام مختلفه عن لغه التفاهم العادیه وأنها لم تکن ولن تکون مجرد وسیله للنقل والتوصیل. لقد کان الفارق بین اللغتَین — باستثناء حالاتٍ قلیله نجدها فی شعر دانتی الإیطالی أو جونجورا الإسبانی — یتسم بالتدرج والاعتدال بوجهٍ عام. وفجأه اختل المیزان فی النصف الثانی من القرن التاسع عشر فتأکد الفارق الحاسم بین لغه الشعر ولغه الکلام، واتضح التوتر الهائل بینهما، وجاءت المعانی والمضمونات الغامضه المظلمه فزادت الهوه اتساعًا، وأثارت دوامه الحیره والبلبله التی ما زالت تتسع حتى الیوم. أصبحت الکلمات المألوفه ترد بمعانٍ غیر مألوفه، والاصطلاحات العلمیه الموغله فی التخصص تمتلئ بشحنهٍ شاعریه، وترکیب العباره یفقد ترتیبه العضوی أو ینکمش أحیانًا إلى جمل أو کلماتٍ اسمیه توضع إلى جانب بعضها البعض. والتشبیه والاستعاره، وهما من أقدم الوسائل التی لجأ إلیها الشعر فی کل البلاد والعصور، تتغیر وظیفتهما فیستخدمهما الشاعر بطریقهٍ جدیده تتحاشى عنصر التشبیه الطبیعی أو تفرض على الأشیاء وحدهً غیر واقعیه لا تتفق مع المنطق والطبیعه. أصبحت البنیه اللغویه المتحرکه والتتابع النغمی والإیقاعی المتحرر من المعنى أهدافًا تقصد لذاتها کما حدث فی فن الرسم الحدیث والمعاصر عندما استقل اللون والشکل بنفسهما وأزاحا الموضوع والشیء أو استبعداهما کل الاستبعاد؛ ولذلک لم یعد من الممکن أن تفهم القصیده من مضمون عباراتها، لأن مضمونها الحقیقی یکمن فی «درامیه» القوى الشکلیه التی تتحکم فیها من الخارج أو من الداخل. مثل هذه القصیده تجذب القارئ أو المستمع ولکنها تُحیِّره وتصدمه. إنها تستخدم اللغه بطبیعه الحال ولکنها لغه لا توصل لقارئها موضوعًا ولا تنقل إلیه معنى. لا غرابه إذن فی أن یوصف الشعر الذی یحتوی على مثل هذه الظواهر بأنه نشاز. ولکنه یتصف کذلک بالشذوذ والخروج على المألوف. یشهد بهذا أن صفه المفاجأه أو الغرابه قد أصبحت من المفهومات الرئیسیه التی تتردد فی کتابات نقاده المعاصرین. والحق أن من یروم المفاجأه بالوسائل غیر المألوفه یضطر للجوء إلى وسائلَ شاذه. والشذوذ کلمهٌ خطیره لا یرتاح إلیها الإنسان فی الشعر ولا فی غیر الشعر. فهو یوحی بوجود قیمٍ ثابته تعلو على الزمان والمکان، بینما الواقع یؤکد أن ما یصفه عصر بالشذوذ قد یتخذ منه عصرٌ تالٍ معیارًا له، أی أن القیمه التی یستهجنها زمن قد یتقبَّلها زمنٌ آخر. ولکن هذا الکلام لا یصدق على الشعر الذی نتحدث عنه، بل لا یصدق على رواده الفرنسیین الأوائل. فما زال شعر رامبو ومالارمیه بعیدًا عن تذوق الجانب الأکبر من جمهور القراء، على الرغم من کثره ما کتب ویکتب عنهما، کما أن استحاله تمثل الشعر الحدیث من أهم الصفات التی تنسحب أیضًا على شعر المعاصرین. ونحب أن نؤکد هنا أن استخدامنا لکلمه الشذوذ فی الحکم على الشعر الحدیث لا یعنی أنه شعرٌ مرضی أو منحل، ولا یعنی أننا نصدر علیه حکمًا أخلاقیًّا، ولکننا نقصد منه الکشف عن ظواهره التی تمیزه عن الشعر القدیم. فإذا وصفنا مثلًا إحدى قصائد جوته أو هوفمنستال بأنها سویه فإنما نقصد بذلک وصف الحاله النفسیه أو الشعوریه التی تقدر على فهم هذه القصیده. صحیح أن بعض المتحمسین للشعر الحدیث یحاولون أن یحموه من ضیق الأفق البرجوازی أو الذوق المدرسی والتقلیدی ولکنهم بهذا یثبتون عدم نضجهم ویخطئون فی إدراک الباعث الحقیقی على مثل هذا الشعر، بل ویؤکدون جهلهم بتطور الشعر الأوروبی على مدى ثلاثین قرنًا. لیس الشعر الحدیث ولا الفن الحدیث فی حاجه للوقوف منهما موقف الانبهار أو الإنکار. إنهما ظاهرتان راسختان من ظواهر العصر الحاضر ومن حقهما أن نعرفهما ونقدرهما عن وعی وتبصُّر. ومن حق القارئ أیضًا أن یستمد مقاییسه وقیمه فی الحکم والتذوق من الشعر القدیم الذی تعوَّد علیه، ولیس لنا أن نلومه على ذلک. وإذا کنا نتحاشى تطبیق هذه القیم والمقاییس فی حکمنا على الشعر الحدیث، فإن هذا لا یمنعنا من الاستعانه بها فی الوصف والمعرفه. والوصف والمعرفه ممکنان حتى فی مثل هذا الشعر الذی لا یُنتظر من القارئ أن یفهمه؛ لأنه، کما یقول إلیوت، لا یحتوی على أی معنًى یرضی عاده من عادات القارئ. ذلک لأن بعض الشعراء، کما یقول إلیوت أیضًا، یشعرون بالقلق والضیق إزاء هذا المعنى لأنه یبدو لهم شیئًا سطحیًّا، وهم یرون أن إمکانیات العمق أو الحده الشاعریه یمکن أن تأتی من انصراف الشاعر عن المعنى، والشعر الحدیث قابل بغیر شک أن یوصف ویعرف، مهما سمح لنفسه بأقصى درجات الحریه. صحیح أن الناقد أو القارئ لن یفهم منه کثیرًا، بل إن قدره الشاعر نفسه على فهم قصیدته محدوده إلى أقصى درجه، ولکن القارئ سیعرف على الأقل أنه شعر متحرر، وسیحاول أن یتبین مظاهر هذه الحریه التی بررت من قبلُ وصفه بالشذوذ أو النشاز، وسیقرر بعد قراءه العدید من نماذجه الصالحه أن صعوبه فهمه أو استحالته فی أغلب الأحیان طابع مُمیِّز فیه وعلامه داله على أسلوبه. وقد یستطیع کذلک أن یتبین بعض علاماته الأخرى الممیزه، إذا حاول أن یضعه فی سیاق التطور التاریخی، ویستکشف أسرار صنعته ویدرک العوامل المشترکه بین مختلف الشعراء المحدثین والمعاصرین فی اللغه والبناء والأداء، ولا بد أن کثره المعانی التی تشعُّ من القصیده الواحده ستربکه وتحیره، ولکنه سیعرف فی النهایه أن تعدد المعانی فی القصیده وقابلیتها لإمکانات التفسیر المختلفه المفتوحه من أهم خصائص الشعر الحدیث. (٣) مقولات سلبیه لا بد لدارس الشعر الحدیث أن یبحث عن المقولات التی یصفه بها، ولا مناص من القیام بهذه المهمه التی یؤکدها النقد کله، ولا مناص أیضًا من القول بأن هذه المقولات فی مجموعها مقولاتٌ سلبیه. وینبغی أن نؤکد ما قررناه من قبلُ من أننا نستخدم هذه المقولات للفهم والتعریف، لا للتقییم وإصدار الأحکام. ووصفنا لها بالسلبیه لا یعنی بطبیعه الحال أننا ندین الشعر الحدیث أو نوجِّه إلیه الاتهام. فأقصى ما یطمح إلیه الدارس هو أن یعرف طبیعه هذا الشعر ویضعه فی موضعه التاریخی الصحیح. بل إن موقف التعریف لا التقییم هو نفسه جزء من العملیه التاریخیه الشامله التی تَحرَّر بها الشعر الحدیث من القدیم. لقد أدى التغییر الذی طرأ على الشعر فی القرن التاسع عشر إلى تغییرٍ مماثل فی مفهوم الآداب ونظریات النقد. کان الشعر حتى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر وربما بعد ذلک بفترهٍ غیر قصیره، یعیش بأکمله فی إطار المجتمع أو فی حماه. فالناس ینتظرون منه أن یکون تعبیرًا أو تشکیلًا مثالیًّا للمواقف والمشاعر العادیه، وعزاءً شافیًا للآلام والجراح مهما تناول من موضوعاتٍ مخیفه أو قاسیه. وکان الشعر نوعًا من الأنواع الأدبیه لا یفکِّر أحد فی تقدیمه علیها أو تفضیله عنها. ثم وجد الشعراء أنفسهم فی مواجهه مجتمعٍ مشغول بمطالبه الاقتصادیه وتأمین حیاته المادیه، وتقدمٍ علمی یجاهد فی تجرید العالم من أسراره وألغازه. فکانت صرخات الاحتجاج التی أطلقها على المجتمع والجماهیر التی فقدت الإحساس بروح الشعر. وکان أن أنشق على التراث، وأصبح شذوذ الشاعر تبریرًا لأصاله الشعر، وصار الأدب لغه العذاب المتصل الذی یدور ویدور حول نفسه فلا یسعى إلى النجاه والخلاص بقدر ما یسعى إلى الکلمه المعبره عن عذاب الوجدان. وأصبح الشعر هو أسمى مظاهر الأدب وأنقاها، بل لقد وقف من بقیه الأنواع الأدبیه موقف المعارضه، وأعطى لنفسه الحریه المطلقه فی التعبیر عن کل ما یوحی به الخیال القادر المتسلط، والتغلغل المستمر فی الحیاه الباطنه وأعماق اللاشعور، واللعب بفکره الوجود الخالی من کل حقیقه متعالیه. وانعکس هذا التحول على اللغه التی یستخدمها النقاد والشعراء أنفسهم فی کلامهم عن الشعر. کان نقاد الشعر القدیم وشعراؤه یحکمون على القصیده من مضمونها ویصفونها بما یمکن تسمیته بالمقولات الإیجابیه. ولو نظرنا فی تعلیقات جوته مثلًا على بعض قصائده أو قصائد غیره من الشعراء لوجدنا مثل هذه الأحکام: متعه، فرح، توافقٌ سعید، وکل ما خاطر به الشاعر یخضع لمعیارٍ محکمٍ مقنن. الکارثه تستحیل إلى نعمه، العادی والدنیء یسمو ویرتفع. وفضیله الأدب أنه یعلم الناس أن حاله الإنسان أو وجوده شیءٌ محببٌ مرغوب فیه؛ فهو ینطوی على «مرحٍ داخلی»، «ونظرهٍ سعیده وموفقه إلى الواقع» وهو یرتفع بالفردی إلى المستوى العام، أما الأوصاف الشکلیه فنجد منها: الدلاله الفنیه للکلمه، اللغه المتزنه المتماسکه التی «تسیر بحرص ودقه وتأنٍّ». «وتنتقی الکلمه الصحیحه وتتحاشى المعانی الجانبیه.» وأحکام شیلر لا تخرج کذلک عن هذا الإطار، فالقصیده عنده تُضفی النبل وتخلع على الانفعال ثوب الکبریاء، إنها «تکوینٌ مثالی للموضوع الذی تتناوله، بغیره لا تستحق أن تسمى قصیده.» وهی تتلافی «الإغراب» والشذوذ الذی ینافی «العام المثالی»، وکمالها مستمدٌّ من روحٍ مرحهٍ صافیه، وشکلها الجمیل من «اتصال السیاق». وطبیعی أن مثل هذه الأوصاف الإیجابیه تستدعی أضدادها من الأوصاف السلبیه. ولکن الشعر القدیم لم یکن یستخدم هذه الأوصاف السلبیه إلا للاتهام أو الإزراء بما یخالف معاییره وأحکامه، کأن یقول مثلًا إن القصیده شذرهٌ ناقصه، أو غامضهٌ مضطربه، أو مجرد حشد للصور، أو لیلٌ مظلم (بدلًا من أن تکون نورًا یضیء)، أو أحلامٌ مختلطهٌ مترنحه أو نسیجٌ مهزوز (کما یقول الشاعر والناقد النمسوی جریلبارزر فی بعض أحکامه). وهناک نوعٌ آخر من المقولات السلبیه یستخدمه أصحابه استخدامًا ینصبُّ على الشکل أکثر مما ینصبُّ على المضمون. فالشاعر الکاتب الرومانتیکی الألمانی الشهیر نوفالیس (١٧٧٢–١٨٠١م) یطبق هذا النوع فی شذراته المشهوره التی احتوت على تأملاتٍ قیمه عن الشعر تطبیقًا یمیل إلى الوصف والإطراء ویبتعد عن اللوم والاتهام وإبراز العیوب. إن الشعر عنده یقوم على «الإنتاج العرضی المقصود»، ویصور ما یقوله فی «تسلسلٍ عرضیٍّ حر». وکلما کانت القصیده شخصیه وکلما زاد ارتباطها بالمکان والزمان، کلما اقتربت من مرکز الشعر (ولنلاحظ هنا أن الزمانیه والمکانیه أو المحلیه کانتا تُعدَّان فی النقد القدیم من المآخذ التی تحدُّ من آفاق الأدب عامه). وإذا انتقلنا إلى شاعر مثل لوتریمو (١٨۴۶–١٨٧٠م) وجدنا المقولات السلبیه تتراکم عنده بشکلٍ ملحوظ. فقد تنبأ فی سنه ١٨٧٠م بالصوره التی سیکون علیها الأدب من بعده. صحیح أن هذه الصوره تبدو أشبه بالتحذیر ودق نواقیس الخطر، وإن کان من المتعذَّر أن یستقر الإنسان على تفسیر لما یقوله هذا الفوضوی العظیم الذی ظل یغیر الأقنعه على الدوام. ولکن المدهش حقًّا أن هذا الشاعر الذی ساهم مساهمهً کبیره فی التمهید للشعر من بعده، قد عرف کیف یحدد خصائصه الأساسیه تحدیدًا صادقًا یدل على بُعد النظر، ویجعلنا نشک فیما یقال من إنه أراد أن یوقف تطور الشعر على هذا النحو الذی صوره، أو یحملنا على الأقل على عدم الاکتراث. ولننظر الآن إلى بعض هذه الخصائص والملامح التی حددها. سنجد بینها مثل هذه التعبیرات: القلق، الاضطراب، إهدار القیم، السخریه المره، غلبه الاستثناء والشذوذ، الغموض، الخیال الجامح، الکآبه والظلام، التمزق بین الأضداد المتطرفه، المیل إلى العدم. ثم تأتی هذه الکلمه بین غیرها من عدید الکلمات: النشر (بمعنى نشر الخشب!) … ونحن نجد هذه الکلمه الأخیره scies فی مواضعَ أخرى کثیره، فی الشعر والفن التشکیلی على السواء. فالسطر الأول من قصیده «لإلوار» بعنوان «الشر» (وتجدها بین مختارات هذا الکتاب)، یقول ضمن ما یقوله من صور الدمار والتحطیم: هناک کان الباب کالمنشار … إلخ. وکثیر من لوحات بیکاسو تُصوِّر المنشار أو تکتفی بتصویر أسنانه التی تخترق مساحاتٍ هندسیه وحسب، دون أن تکون هناک ضروره یفرضها الموضوع الذی یصوره، وبعضها الآخر یصور أوتار قیثاره فی تکوینات أشبه بالمناشیر. ولا یجوز أن نتکهن هنا بأی تأثر أو تأثیرٍ متبادل بین الشاعر والرسام. وکل ما نستطیع أن نقوله هو إن ظهور رمز المنشار هذا على فتراتٍ زمنیه متباعده إنما یدل على ما أشرنا إلیه فی الصفحات السابقه من وحده البناء التی تغلب على الأدب والفن الحدیث والشعر بوجهٍ خاص ابتداءً من النصف الثانی من القرن التاسع عشر. ونستطیع أن نستطرد فی ذکر بعض الاصطلاحات والأوصاف الممیزه لطابع الشعر الحدیث مما یکتب عنه فی اللغات الإنجلیزیه والفرنسیه والإسبانیه والألمانیه. فمن هذه الاصطلاحات التی تستخدم کما قدمنا للوصف لا لإصدار الأحکام أو توجیه اللوم والاتهام نذکر على سبیل المثال لا الحصر: الضیاع. تبدید العادی والمألوف. النظام المفقود، التفکک. الاقتطاف. العکس. أسلوب الرصِّ والتجاور (أی رص الکلمات والمعانی بجانب بعضها البعض دون ضرورهٍ منطقیه أو معنویه أو لغویه). الشعر المجرد من الشاعریه. التحطیم والتفتیت. الصور القاطعه. المفاجأه الضاریه. الإزاحه. الإغراب. إحداث الصدمات … إلخ. وأخیرًا نورد هذه العباره للناقد الإسبانی داماسو ألونسو: لیس هناک وسیله لتسمیه فننا إلا بالتصورات والمفهومات السالبه. ولقد کتب ألونسو هذه العباره فی سنه ١٩٣٢م، واستطاع هو وغیره أن یکرروها بعد ذلک فی سنه ١٩۵۴م دون حاجه إلى تغییر. من الأمانه العلمیه إذن أن نستخدم هذه المفهومات فی حدیثنا عن الشعر الحدیث. ومع ذلک فالأمر لا یخلو من وجود مفهومات واصطلاحات أخرى. فالشاعر فیرلین یصف أشعار رامبو بأنها «فرجیلیه». ولکن أشعار راسین یصدق علیها هذا الوصف أیضًا. ولعل هذا الوصف الإیجابی من جانب فیرلین لم یقصد به إلا أن یکون محاولهً غامضه للتقریب بین الشاعرَین، ولعله لا یرید أن یصف أشعار رامبو وصفًا دقیقًا بقدر ما یرید أن یلمح للنشاز الملحوظ فی موضوعاته وقاموسه اللغوی. ومن النقاد الفرنسیین من یتحدث عن شعر إلوار فیذکر جماله المتمیز. ولکن هذه القیمه الإیجابیه تقف وحدها بین طائفه من القیم السلبیه التی یضفیها الناقد علیه وتمیز جمال هذا الشعر قبل غیرها من القیم. ولا یقتصر هذا على نقاد الأدب وحدهم؛ إذ نصادفه کثیرًا عند عدد من نقاد الفن الحدیث. فهم یصفون رقبه یرسمها بیکاسو بأنها «أنیقه». وقد یصدق علیها هذا الوصف. ولکنه لا یصدق على الطابع الممیز الذی جعل لها هذه الأناقه وأعنی به أنها تکوین غیر واقعی صرف، لیس فیه أثر من الشکل البشری المألوف. ولکن لماذا لا یتشجع أحد من النقاد فیذکر لنا هذه القیمه أو المقوله السلبیه فی وصفه لأناقه تلک الرقبه التی لم یبقَ هناک شبه بینها وبین رقبه الإنسان؟ إن السؤال یفرض نفسه أیضًا فی مجال الشعر. فلماذا تصف المقولات السلبیه هذا الشعر بأدق مما تصفه المقولات الإیجابیه؟ هل سبقنا کل هؤلاء الشعراء بمراحل بحیث لم یعد فی مقدور أیه فکره أو تعریف إیجابی أن یلحق بهم؛ مما اضطرنا إلى استخدام الأفکار والتعریفات السلبیه فی الکلام عنهم؟ هل معنى هذا أن الشعر الحدیث — وهو الغرض الذی أشرنا إلیه من قبلُ — یستعصی على التمثل أو التذوق، وإن هذا هو أحد خصائصه الممیزه؟ إن هذه الأسئله تنصبُّ على التحدید التاریخی لهذا الشعر، أی تتعلق بمستقبله، والسؤال عن المستقبل لا یدخل فی نطاق العلم، وقد تصدق کل الأسئله، ولکننا لن نستطیع أن نقطع فیها على وجه الیقین. والشیء الوحید الذی یمکننا أن نؤکده هو شذوذ هذا الشعر، أی خروجه عن المألوف، ومن هذه الحقیقه نستخلص نتیجهً ضروریه، وهی أننا ملزومون بمعرفه عناصر هذا الشذوذ معرفهً دقیقه، لکی یحق لنا بعد ذلک أن نستخدم القصورات والمقولات السلبیه التی قلنا إنها تفرض نفسها على قراء الشعر الحدیث. (۴) مقدمات نظریه فی القرن الثامن عشر (۴-١) روسو ودیدرو یلاحظ المتأمل للفکر الأوروبی فی النصف الثانی من القرن الثامن عشر بعض الظواهر التی یمکن اعتبارها مقدمات مهدت للشعر الحدیث والمعاصر. وسنکتفی فی الصفحات المقبله بتوضیح هذه الظواهر عند روسو (١٧١٢–١٧٧٨م)، ودیدرو (١٧١٣–١٧٨۴م) … ولا یعنینا فی هذا المجال أن نتحدث عن روسو المشرع للدوله والمجتمع، ولا عن روسو الذی أسکرته الطبیعه النقیه العذراء فأخذ یتغنى بفضائلها بعاطفه الأنبیاء وإخلاص المصلحین. ولن نمسَّ هذا الجانب الهام من تفکیره إلا بقدر ما یتصل بأحد طرفَی التوتر والصراع الذی یسری فی کل أعماله، وأقصد به الصراع بین حده العقل وفوره الانفعال، بین التفکیر المنطقی المحکم والخضوع لمثالیات العاطفه، وهو صراع یمکن أن نرى فیه مظهرًا من مظاهر النشاز الذی یطبع التفکیر والأدب والفن الحدیث بطابعه. ومع ذلک فهناک ملامحُ أخرى من تفکیر روسو تبرز أهمیته فی هذا المقام. فالمعروف أنه وریث أکثر من تراث. ولکن یبدو أنها لا تلزمه ولا تخدم هدفه. فأعجب ما فی روسو أنه یرید أن یقف وحیدًا وحدهً تامه فی مواجهه نفسه ومواجهه الطبیعه. وهذه الإراده هی الشیء الجدید الفرید فیه. إنه یقف فی نقطه الصفر من التاریخ، کأنما یرید أن یبدأ من العدم. وهو بمشروعاته التی یضعها للدوله والمجتمع والحیاه یجرد التاریخ من قیمته، بل یعتبر أن دخولها فی الظروف التاریخیه تزییف وإفساد لها، ولذلک کان موقفه الفردی المطلق تجسیدًا لأول شکلٍ حاسم من أشکال الخروج على التراث، کما کان فی نفس الوقت خروجًا على البیئه المحیطه به وانشقاقًا علیها. تعوَّد الکتاب أن ینظروا إلى روسو نظرتهم إلى مریضٍ نفسی، بل إن بعضهم یعتبره أنموذجًا کلاسیکیًّا على جنون الاضطهاد! ولکننا نعلم أن هذه الأحکام النفسیه لا تکفی دائمًا لتفسیر الأعمال الفنیه والأدبیه، بل إنها فی بعض الأحیان تفسدها وتجنی علیها. فهی لا تفسر فی حالتنا هذه سبب إعجاب الناس بشذوذ روسو ووحدته وتفرده إعجابًا لم ینقطع إلى الیوم. صحیح أن هناک ظواهرَ مرضیه لا یمکن إنکارها فی شخصیه روسو، وصحیح أنها ساعدت على توسیع الهوه التی فصلته عن مجتمعه وتراثه، وصورت لذاته المطلقه الوحیده أنه العبقری الذی لا یفهمه أحد. ولکن هذه الظواهر أو التجارب النفسیه قد التقت مع تجربه العصر کله، وهی تجربه ترتفع فوق الذوات والأشخاص. والمهم أننا نجد عند روسو نوعًا من التفسیر الذاتی الذی سنجده عند عددٍ غیر قلیل من شعراء القرن التالی له، وهو تفسیر الشذوذ بأنه الضمان الأکید لرساله المفکر والأدیب والاقتناع بالصراع الضروری والشقاق المحتوم بین الذات والعالم اقتناعًا یجعل روسو وأتباعه یقولون: «أحب إلیَّ أن أکون مکروهًا من الناس على أن أکون عادیًّا مثلهم، بل إنهم لیجعلون من هذا القول قاعده لسلوکهم وحیاتهم. إن الذات التی لا یرید أن یفهمها أحد تتعذب بالاحتقار الذی تسببه لنفسها من الناس والمجتمع، کما تتعذب بالانطواء فی عالمها الباطن الوحید، وترى فی ذلک آیه العزه والکبریاء. بل إنها لتجد فی هذا الاحتقار دلیلًا على رفعتها. ولقد عبر الشاعر فیرلین عن هذا کله حین أطلق على نفسه وأصدقائه کلمته المشهوره «شعراء ملعونون». استطاع روسو فی أحد أعماله المتأخره «أحلام متجول وحید» أن یعبر عما یمکن أن نسمیه حاله یقینٍ وجودیٍّ سابقه على مرحله العقل. ومضمون هذه الحاله أشبه بضباب الحلم الذی یتسرب من الزمن المیکانیکی إلى الزمن الباطن الذی لا یفرق بین الماضی والحاضر، والخیال والواقع، والفوضى والنظام. والحق أن اکتشاف الزمن الباطن (أو الدیمومه النفسیه التی طالما تحدث عنها برجسون) لیس شیئًا جدیدًا، ولکن الجدید عند روسو هو هذا الحماس الشاعری الذی یصفه به ویصوِّره جزءًا من الذات الوحیده المعادیه للبیئه والمجتمع. وهو شیء سیکون له أکبر الأثر على حرکه الشعر فیما بعدُ، وسیزید فی قوه تأثیره عن کل التحلیلات الفلسفیه لفکره الزمن عند لوک أو غیره. وها هو ذا الزمن المیکانیکی أو الساعه، تصبح عند المتأخرین رمزًا کریهًا للحضاره الآلیه (کما نرى عند بودلیر وغیره من الشعراء المعاصرین مثل ماتشادو)، کما یصبح الزمن الباطن ملاذ الشعر الذی یجاهد فی الهروب من سجن الواقع. أشار روسو فی مواضعَ أخرى من کتاباته إلى فکره إلغاء الفوارق بین الخیال والواقع، فالخیال وحده — کما یقول فی قصته الشهیره «هیلوییز الجدیده» — هو الذی یهب السعاده، أما التحقق فی الواقع فهو للسعاده موت وفناء، کما یقول أیضًا إن «بلاد الوهم هی البلاد الوحیده التی تستحق أن یسکنها الإنسان فی هذه الدنیا» (۶، ٨). ووجود الإنسان قد بلغ من العدم والزوال بحیث لا یکون جمال إلا فیما لا وجود له. أضف إلى ذلک فکره الخیال الخلاق. فمن حقه أن یخلق بقوه الذات وسلطانها أمورًا لیس لها وجود ویضعها فی منزله أعلى من کل ما هو موجود (الاعترافات ٢، ٩). قد یکون من الخطأ أن نبالغ فی قیمه هذه العبارات وأثرها على الشعر المتأخر. إنها تنبع من حراره العاطفه عند روسو وتصطبغ بألوانها. ولکننا لو استبعدنا هذه العاطفه لوجدنا الخیال قد أصبح ملکهً جسوره تعلم أنها خادعه، ولکنها ترید هذا الخداع لأن صاحبها مقتنع بأن العدم — وروسو یفهم من الناحیه الأخلاقیه — لا یسمح للعقل بغیر الإبداع الخیالی، وهذا وحده هو الذی یشبع حاجه الوجدان إلى التفتح والخلق. بهذا یصبح الخیال أو تصبح المخیله قوهً مطلقه، ولا یجد العقل نفسه ملزمًا بأن یقیس إبداع الخیال بمقیاس الواقع. وسوف نلتقی بهذا الخیال نفسه فی القرن التاسع عشر، بل سنجد إنه قد زاد حده بحیث نستطیع عندئذٍ أن نتحدث عن طغیان الخیال المتسلط أو المخیله الطاغیه التی تحررت نهائیًّا من الألوان العاطفیه التی صبغها بها روسو. وإذا انتقلنا إلى دیدرو وجدناه یجعل من الخیال شیئًا مستقلًّا بنفسه ویسمح له أن یقیس نفسه بنفسه وأفکار دیدرو تختلف عن أفکار روسو فهی مرتبطه بتفسیره لظاهره العبقریه والعبقری کما عرضه فی روایته «ابن أخ رامو».٢ وفی مقاله عن العبقریه فی دائره المعارف الشهیره التی کان له فضل تأسیسها وإتمامها، یقول دیدرو فی روایته إن الارتباط الذی نلمسه کثیرًا بین العبقریه والنزعه اللاأخلاقیه، وبین الإخفاق فی الحیاه الاجتماعیه والنبوغ العقلی حقیقه ینبغی أن نُقرِّرها وإن کنا نعجز عن تفسیرها. والفکره فی حدِّ ذاتها فکرهٌ جریئه؛ فهی تلغی ما عرف منذ العصور القدیمه من تسویه بین الملکات الجمالیه والمعرفیه والأخلاقیه ووضعها فی مرتبهٍ واحده. بذلک تصبح العبقریه الفنیه نظامًا مستقلًّا یخضع لقوانینَ مستقله، کما یصبح العبقری استثناءً یشذُّ عن کل قاعده. ویکفی أن نقارن هذا الرأی بمحاولات «لیسنج» و«کانت» للربط بین شذوذ العبقریه وبین قیم الحق والخیر. ولا تقل مقاله دیدرو فی دائره المعارف عن ذلک جساره. صحیح أنها تتصل بفکرهٍ قدیمه تقول إن العبقریه قوهٌ فطریه تمکن صاحبها من القدره على الاستشراف والتنبؤ وتجیز له أن یحطم کل القواعد المألوفه. ولکننا لن نجد عند کاتب قبل دیدرو أمثال هذه العبارات: إن من حق العبقری أن یکون ضاریًا، ومن حقه أن یخطئ، بل إن أخطاءه الغریبه المذهله هی التی تلهب وتضیء. إنها تنتثر فی کتاباته کالشرارات المتَّقده الخاطفه. وهو یحلق کالنسر المسحور بروعه أفکاره، ویبنی بیوتًا لا یستطیع عقل أن یسکنها. إن إبداعاته تألیفاتٌ حره یفتن بها ویحبها، وملکته تنتج أکثر مما تکتشف. ولذلک «لم یعد الصدق والکذب من الخصائص الممیزه للعبقریه.» أما الخیال أو المخیله فهی القوه التی توجه العبقری، وما یصدق علیه یصدق بالمثل علیها، أعنی أن تکون حرکهً ذاتیه لملکات العقل وقواه، تقاس قیمتها بأبعاد الصور المبدعه، وتأثیر الأفکار، والدینامیه الخالصه التی تحررت من الارتباط بأی مضمون ولم تعد تعبأ التفرقه بین الخیر والشر، والصدق والکذب، والصواب والخطأ. ألا یجعلنا هذا کله على بعد خطوهٍ واحده مما سمیناه بطغیان الخیال أو المخیله المتسلطه التی سیکون لها أکبر الأثر على الشعر فیما بعدُ؟ ثمه شیءٌ آخر نجده عند دیدرو فی کتابه «الصالونات» الذی کان یصدر فیه أحکامه النقدیه على فن الرسم فی عهده. فنحن نجد فیها لونًا من التذوق الحسَّاس لجوِّ اللوحه، کما نجد آراء جدیده عن القوانین المستقله للضوء والألوان، أعنی المستقله عن الذات المبدعه والذات المتلقیه على السواء. وأهم من هذا کله أن تحلیلات دیدرو عن الرسم تلتقى بتحلیلاته الأدبیه. ولا صله لهذا بالنظریه القدیمه التی ارتبطت بکلمه هوراس المعروفه (وهی کلمه أسیء فهمها کثیرًا): «الشعر کالرسم ut pictura Poesis فالملاحظ عند دیدرو هو تقارب التفکیر فی الأدب من التفکیر فی الفنون التشکیلیه، وهو شیء یعود إلى الظهور عند بودلیر ویستمر ویزداد قوه فی العصر الحاضر. ونجد کذلک فی «الصالونات» رأیًا فی طبیعه العمل الأدبی والخلق الشعری قد لا نعرف له نظیرًا إلا فی آراء الفیلسوف الإیطالی ج. ب. فیکو الذی لم یعلم دیدرو عنه شیئًا. فدیدرو یرى أن النغمه بالنسبه للبیت من الشعر کاللون بالنسبه للصوره. وهو یسمی العنصر المشترک بینهما «سحر الإیقاع»، ویقول إنه یؤثر على العین والأذن والخیال تأثیرًا عمیقًا لا تقدر علیه الدقه الموضوعیه. إن «الوضوح یضر!» ولذلک فهو یهتف بالأدباء: «أیها الأدباء، کونوا غامضین.» ویدعو الأدب إلى الاتجاه للموضوعات المظلمه، البعیده، المفزعه، الحافله بالغموض والظلام والأسرار. والمهم بعد هذا کله أن الأدب فی رأی دیدرو لیس تعبیرًا عن الأشیاء والموضوعات، بل هو حرکهٌ وجدانیه «تتوسل بالخلق الحر للاستعارات» لتقذف بنفسها إلى أقصى الحدود والأطراف، کما تستعین کذلک بالألحان والأنغام الغریبه المتطرفه. ودیدرو یعلن بهذا کله حقائقَ جوهریه تتمثل فیها روح الشعر الحدیث، وکأنی به یتنبأ بما ستکون علیه حاله فی المستقبل الذی نشهده الیوم! فها هو ذا یقدم سحر اللغه على مضمونها، وحرکه الصوره على معناها. وبینما کان عصر التنویر یشرف على نهایته کان دیدرو یکتشف ما أنکره أقطاب هذا العصر وتجاهلوه. فالأدب عنده سر، نسیجٌ هیروغلیفی، حدیث بالرموز والألغاز، یتألف من طاقاتٍ نغمیهٍ أفعلَ فی تأثیرها من الفکره. بل إنه لیسیر إلى أبعد مدًى ممکن فی التحرر من الموضوعیه أو الشیئیه، تشهد على ذلک هذه العباره المدهشه: «إن الأبعاد الخالصه المجرده للماده لا تخلو من قدرهٍ معینه على التعبیر.» وسنرى من هذه الدراسه أن بودلیر سینطق بمثل هذه العباره وسیزیدها حسمًا وتحدیدًا، وإنه سیضع بذلک حجر الأساس لأحد معالم الأدب الحدیث، وهو الذی یمکن أن نسمیه الشعر المجرد أو الشعر الخالص المحض. وقد وضع دیدرو نظریهً فی الفهم یمکن تلخیصها على النحو التالی: لیس الفهم فی أفضل حالاته إلا فهمًا للنفس. ولما کانت اللغه عاجزه عن أن تعکس المعانی بصورهٍ دقیقه فإن العلاقه بین الأدب وقارئه لیست علاقه فهم بل إیحاءٌ سحری. وأخیرًا فإن لدیدرو الفضل فی توسیع مفهوم الجمال؛ فلقد وجد فی نفسه الشجاعه للتنبیه — فی حذرٍ شدید — إلى أن الاضطراب والفوضى یمکن التعبیر عنهما تعبیرًا جمالیًّا، کما أن الإدهاش أو الإذهال یمکن أیضًا أن یحدثا أثرهما الفنی. کل هذه أفکارٌ جدیده سطعت فی عقلٍ عظیم طالما ومض فی سمائه إلهام الخواطر والأحاسیس، حتى لقد شبه صاحبه بالنار أو البرکان أو برومیثیوس. صحیح أن ساعه هذه الأفکار لم تدق إلا بعد أن نُسی صاحبها نسیانًا یوشک أن یکون تامًّا. ولکنها کانت قد تقمصت غیره من نوابغ الأجیال المتأخره، ومهدت الطریق للحرکه الجدیده الطموح التی سمیناها حرکه الشعر الحدیث أو بالأحرى ثورته. (۴-٢) نوفالیس ورأیه فی مستقبل الشعر هذه الأفکار الجدیده التی نقلناها عن روسو ودیدرو عن وظیفه الخیال والأدب زادت قوَّتها مع الحرکه الرومانتیکیه فی ألمانیا وفرنسا وإنجلترا. ویضیق المجال عن تتبع الطریق الذی سارت فیه حتى وصلت إلى الأدباء فی منتصف القرن التاسع عشر وأواخره. ولکننا سنقف وقفهً قصیره عند الرومانتیکیه لکی نتأمل أهم ظواهرها التی أصبحت من أدل الظواهر على طابع الشعر الحدیث. ولا بد أن نبدأ بالشاعر والکاتب الرومانتیکی الألمانی نوفالیس (١٧٧٢–١٨٠١م) إذ لا یستطیع منصف أن یتجاهل تأملاته وخواطره عن الشعر، ونحن لا نتجاوز الحقیقه إذا قلنا إن هذه التأملات والخواطر التی دوَّنها فی شذراته المعروفه أو فی بعض صفحات من روایته «هینریش فون أفتردنجن» التی لم یُقدَّر له کذلک أن یتمها، أهم بکثیر من أعماله الأدبیه نفسها. کان نوفالیس یرید فی مبدأ الأمر أن یفسر طبیعه الشعر الرومانتیکی، فخرجت منه مجموعه من الأفکار التی تحدد ملامح الشعر کله فی المستقبل. ولن نستطیع أن نقدر هذه الأفکار على حقیقتها حتى نقیسها بالإنتاج الشعری الذی بدأ من بودلیر وما زال مستمرًّا حتى الیوم. ویحسن بنا قبل مناقشه آراء نوفالیس أن نورد بعضها بنصه، حتى یتضح لنا مدى أهمیتها وأثرها على کثیر من الأفکار التی نرددها الیوم عن الشعر الحدیث. یتحدث نوفالیس فی أحد فصول «الشذرات» عن «الأدباء وعالمهم» وإن کان یقصد فی الحقیقه الشعراء والشعر الغنائی قبل کل شیء: ملکه الخیال هی أعظم ما فی الوجود. طبیعه العبقری بوجهٍ عام طبیعهٌ شاعریه، وحیثما أثر العبقری کان تأثیره شاعریًّا. کل إنسان ذی خلقٍ أصیل فهو أدیب أو شاعر (فالکلمه الأصلیه تدل على المعنیین معًا). إذا کان الفیلسوف ینظم کل شیء ویضعه فی موضعه، فإن الأدیب یفک کل القیود. إن کلماته لیست علامات عامه، بل هی أنغام، رُقًى سحریه تحرک من حولها مجموعاتٍ جمیله. وکما تحتفظ ثیاب القدیسین بقوًى عجیبه، فرب کلمه تبارکها ذکرى رائعه، فتصبح بمفردها قصیده. اللغه لا تجدب أبدًا عند الأدیب والشاعر، ولکنها تکون شدیده التعمیم. کثیرًا ما یحتاج إلى کلماتٍ مکروره بلیت لطول الاستعمال. عالمه بسیط کأداته، ولکنه مع ذلک عامر بالأنغام التی لا تنفد. الشعر هو الواقع الأصیل المطلق، هذه هی نواه فلسفتی. کلما کان «التعبیر» أشعر کان أصدق. لا نستطیع أن نعرف ماهیه الشعر على وجه التحدید. إنه مرکب إلى حدٍّ هائل ومع ذلک فهو بسیط، جمیل، رومانتیکی، منسجم؛ کل هذه تعبیراتٌ جزئیه عن الشعر. الشعر یأمر وینهى بالألم والوخز، باللذه والعذاب، بالخطأ والصدق، بالصحه والمرض. إنه یمزج کل شیء لخدمه هدفه العظیم؛ هدف الأهداف، وهو الارتفاع بالإنسان فوق ذاته. الساحر شاعر. والنبی بالقیاس إلى الساحر، کالرجل الحساس بالنسبه للشاعر. الشعر بالنسبه للإنسان کالجوقه (الکورس) بالنسبه للمسرحیه الإغریقیه. هو مسلک النفس الجمیله الموقعه، صوت مصاحب لذاتنا المکونه، مسیره فی بلد الجمال، أثرٌ ناعم یشهد فی کل مکان على إصبع الإنسانیه، قاعدهٌ حره، انتصار على الطبیعه الفجه فی کل کلمه، تعبیر عن فاعلیهٍ حره مستقله، علو وارتفاع، بناء للنزعه الإنسانیه، تنویر، إیقاع، فن. الشعر تصویر (تعبیر) للوجدان، لعالم الباطن بکلیته. إن وسیلته، وهی الکلمات، تدل بنفسها على هذا؛ فهی کما نعلم المظهر الخارجی الذی یکشف عن تلک المملکه الباطنه؛ مملکه القوى والطاقات. إنه أشبه تمامًا بعلاقه فن النحت، بالعالم الخارجی المتشکل، وفن الموسیقى فی علاقته بالأنغام. إن التأثیر المغرب على عکس طبیعته تمامًا — من حیث هو مرن (بلاستیکی) — ومع ذلک فثمه شعرٌ موسیقی، یهز الوجدان نفسه ویحرکه حرکاتٍ متنوعه. یجب أن یکون تصویر الوجدان — کتصویر الطبیعه — مستقلًّا، عامًّا بشکلٍ ملحوظ، عاملًا على الترابط، خلَّاقًا. لا کما هو علیه، بل کما یمکن أن یکون وکما ینبغی أن یکون. من الواضح تمامًا لماذا یصبح کل شیء فی النهایه شعرًا. ألا یصیر العالم فی آخر المطاف وجدانًا؟ ألیس من الواجب ألا یخرج الشعر عن کونه رسمًا وموسیقی باطنه … إلخ؟ معدله بالطبع من خلال طبیعه الوجدان. یحاول الإنسان عن طریق الشعر — ولیس إلا الأداه المیکانیکیه لهذا الغرض — أن یبدع مشاعرَ باطنه ولوحات أو ألوانًا من الحدس، وربما حاول أیضًا أن یبدع رقصاتٍ عقلیه … إلخ. الشعر یساوی فن إثاره الوجدان. البدایه الأصیله هی شعر الفطره. والنهایه هی البدایه الثانیه، وهی شعر الصنعه. شعر الفطره هو الموضوع الحقیقی لشعر الصنعه، والمظاهر الخارجیه للعباره الشعریه تبدو صیغًا عجیبه لعلاقاتٍ مشابهه، وعلاماتٍ داله على الطابع الشاعری للظواهر. الاختیار الموفق ونقاء (الأسلوب). أنسب تعبیر وأصفاه. الإیقاع والقافیه. تناسق النغم. فن الشعر. الشعر بمعناه الدقیق یوشک أن یکون هو الفن الوسط بین الفنون التشکیلیه وفنون الألحان. موسیقى، شعر، الشعر الوصفی هل ینبغی أن یکون الإیقاع مطابقًا للشکل، والنغمه مطابقه للون؟ الموسیقى الإیقاعیه المتجانسه الألحان، النحت والرسم. عناصر الشعر. من لا یستطیع أن یبدع القصائد لا یمکنه أن یحکم علیها إلا حکمًا سلبیًّا. النقد الأصیل یرتبط بالقدره على إبداع نفس الإنتاج الذی ینقده الذوق وحده لا یحکم إلا حکمًا سلبیًّا. فن الشعر الرومانتیکی هو فن الإغراب بطریقهٍ لطیفهٍ مقبوله، هو جعل الشیء غریبًا وجعله مع ذلک مألوفًا وجذابًا. هناک حسٌّ خاص بالشعر؛ جو شاعری کامن فینا. إن الشعر شیءٌ شخصی تمامًا ومن ثم لا یمکن وصفه ولا تحدیده. من لا یعرف الشعر ویتذوَّقه بطریقهٍ مباشره، لا یمکن أن یعطیه أحد فکره عنه. الشعر شعر إنه بعید عن فن الکلام (اللغه) بُعد السماء عن الأرض. أما عن روایته «هینریش فون أفتردنجن» فنکتفی بهذه المختارات التی تتکرر فیها معظم الأفکار التی وجدناها فی الشذرات: الحلم فی رأیی سلاح یحمینا من اطراد الحیاه وسیرها المعتاد راحه من الخیال المقید، حیث تخلط کل صور الحیاه بعضها ببعض، وتقطع الجدیه المستدیمه التی یحیا فیها البالغون عن طریق اللعب، الطفولی المرح. لولا الحلم لشیخنا قبل الأوان؛ ولذلک نستطیع أن نعده هبهً إلهیه، ورفیقًا طیبًا على طریق الحج إلى القبر المقدس. الحق إننا لم نُعنَ أبدًا باستکناه أسرار الشعراء، وإن کنا نصغی لغنائهم بلذه واستمتاع ربما کان من الصواب القول بأن ظهور شاعر فی هذا العالم یکون لحکمه یشاؤها القدر، لأن الأمر فی الحقیقه مع هذا الفن أمر عجیب. کذلک فإن الفنون الأخرى تختلف عنه اختلافًا شدیدًا، کما یمکن بالقیاس إلیه فهمها بسهوله. (وبعد أن یبین نوفالیس طبیعه الفنون المختلفه کالرسم والنحت والموسیقى والغناء یستطرد فی کلامه عن الشعر فیقول): أما فن الشعر فلا نجد منه شیئًا فی الخارج، وهو کذلک لا یبدع شیئًا بالأیدی والأدوات، ولا تستوعب العین والأذن منه شیئًا لأن مجرد سماع الکلمات لیس هو التأثیر الحقیقی لهذا الفن المغلف بالأسرار، إن کل شیء فیه یدور فی عالم الباطن، وکما یملأ أولئک الفنانون الحواس الخارجیه بالمشاعر اللطیفه یملأ الشاعر قدس أقداس الوجدان بأفکارٍ جدیدهٍ عجیبهٍ محببه. إنه یعرف کیف یثیر فینا تلک القوى الخفیه الکامنه فینا کما یشاء، ویمنحنا عالمًا مجهولًا رائعًا نستوعبه من خلال الکلمات. إن العصور القدیمه والمقبله، وجموع البشر التی لا حصر لها، والأماکن والجهات العجیبه، والمشاعر والإحساسات الغریبه، تتصاعد کلها فی نفوسنا کأنها تخرج من کهوفٍ عمیقه، وتنتزعنا من براثن الواقع المألوف. إننا نسمع کلماتٍ غریبه ولکننا نعرف مع ذلک ما تدل علیه. حکم الشاعر تؤثر علینا بقوهٍ سحریه. کذلک تخرج الکلمات المألوفه فی ثوب من الأنغام الخلابه فتسکر المستمعین المأخوذین بسحرها. لا بد أن الطبیعه کلها کانت فی الأزمنه القدیمه أکثر حیاهً وأتم معنًى منها الیوم، فالأحداث التی لا تکاد الحیوانات الآن تلاحظها ولا یکاد یحسُّ بها ویتذوقها إلا الناس؛ کانت تحرک الجمادات فی العهود الماضیه. وهکذا أمکن لأصحاب الفن وحدهم أن یأتوا من الأمور ویخلقوا من الظواهر ما نحسبه الیوم من الخرافات أو الخوارق التی لا یصدقها العقل، من ذلک أنه عاش من أزمنهٍ سحیقه فی بلاد الیونان الحالیه، کما یروی الرحاله الذین صادفوا هذه الحکایات الخرافیه بین عامه الشعب هناک، شعراء استطاعوا عن طریق الأنغام الغریبه التی تصدر عن بعض الآلات العجیبه أن یوقظوا الحیاه المستتره فی الغابات، والأرواح الخفیه فی جذوع الأشجار، ویحیوا البذور فی المناطق القاحله المقفره، ویخلقوا البساتین الرائعه، ویستأنسوا الحیوانات الضاریه، ویُهذِّبوا المتوحشین من الآدمیین، ویثیروا فیهم نوازع الخیر والسلام، ویجعلوا من الأنهار العاتیه میاهًا هادئه بل ویوحوا إلى الأحجار الموات أن تأتی حرکاتٍ منتظمهً راقصه. ولا بد أن هؤلاء الشعراء کانوا فی نفس الوقت عرافین وکهنه، ومشرعین وأطباء، هبطت الکائنات العلیا نفسها بقوه سحرهم لکی تلقنهم أسرار المستقبل ومیزان الأشیاء ونظامها الطبیعی، فضلًا عن فضائل الأعداد والنباتات وسائر المخلوقات وقدرتها على الشفاء. ولا بد أن الأنغام المتنوعه والعواطف والنظم العجیبه، کما تقول الخرافه، قد وجدت طریقها منذ ذلک الحین إلى الطبیعه بعد أن کان کل شیء فیها وحشیًّا مضطربًا منذرًا بالعدوان. ما من شیء ألزم للشاعر من الاستبصار بطبیعه کل شیء، ومعرفه الوسائل الموصله إلى کل هدف، وحضور البدیهه الذی یمکنه على اختلاف الأوقات والظروف من اختیار أنسب هذه الوسائل وأوفقها. إن الحماس الخالی من العقل شیءٌ عقیم وخطیر، وإن الشاعر لیقصر عن إتیان المعجزات، إن سمح لنفسه أن یدهش بالمعجزات. ینبغی للشاعر الشاب أن یکون على أکبر قدرٍ کافٍ من الرزانه والتعقل. الوجدان الأصیل کالنور، یشبهه فی هدوئه وحساسیته ومرونته ونفاذه. وهو فی قدرته على التأثیر القوی غیر الملحوظ أشبه بهذا العنصر البدیع الذی ینتشر فوق جمیع الأشیاء بمیزانٍ دقیق، ویجلوها جمیعًا فی مظهرٍ متنوعٍ أخاذ. إن الشاعر من الصلب الخالص، وهو فی حساسیته أشبه بخیط من الزجاج الهش ولکنه کذلک قاسٍ کالحصاه الجامده. یرید الشعر بالدرجه الأولى أن یکون فنًّا محکمًا. إن أفضل الشعر لقریب منا أشد القرب، ولا یندر أن یکون الشیء العادی من أحب الموضوعات إلیه. والشعر بالنسبه للشاعر مقید بأدواتٍ محدوده، وبهذا وحده یصبح شعرًا. لیس هناک حدٌّ لما یمکن أن یتعلمه الشعراء من الموسیقیین والرسامین.٣ إن على هؤلاء أن یکونوا أکثر شاعریه، کما أن علینا أن نکون أکثر موسیقیه. من هذه المقتطفات نتبین أن ما یقوله نوفالیس عن الشعر یکاد ینصبُّ بأکمله على الشعر الغنائی الذی یعده الشعر الحق. فجوهر هذا الشعر عنده هو إفلاته من کل تحدید، وبعده الشاسع عن بقیه الأنواع الأدبیه الأخرى. صحیح إنه یصفه أحیانًا بأنه «التعبیر عن الوجدان»، ولکن هناک عباراتٌ أخرى تفسر الذات الشاعره بأنها محایده أو بأنها مجموع العالم الباطن الذی لا یحدده إحساس بعینه. إن التعقل الرزین هو رائد الفعل الشعری. فالشاعر مخلوق «من الصلب الخالص»، قاس کالحجر الجامد. والشعر یؤدی إلى المزج بین العناصر المتنافره سواء جاءت مادتها من العقل أو من الأشیاء، إنه یحمی الإنسان من الحیاه العادیه، والخیال فیه یتمتع بحریه تکفل له «تخلیط الصور جمیعًا بعضها ببعض». إنه اعتراضٌ منغم على عالم من العادات والتقالید لا یستطیع الشعراء الحیاه فیه لأنهم «أناسٌ سحره متنبئون». الشعر إذا أشبه بالسحر. وهی علاقه ترجع إلى تراثٍ قدیم لدى شعوبٍ عدیده نظرت إلى الشاعر نظرتها إلى الساحر والعراف والنبی. ولکن نوفالیس یلقی على هذه العلاقه ضوءًا جدیدًا؛ إذ یربط بینها وبین ما یسمیه «البناء» و«الجبر»، أی ذلک الملمح العقلی الذی یؤکده الشعر الحدیث. هذا الشعر الساحر، أو هذا السحر الشعری یتصف بالدقه والإحکام. إنه توحید بین الخیال والفکر، «عملیه» تختلف فی تأثیرها عن المتعه الخالصه التی لم یعد لها مکان فی الشعر. ونوفالیس یأخذ من السحر فکره «التعزیم» أو التعویذ التی نعرفها لدیهم. لکل کلمه عنده رقیه وتعویذه، وکل کلمه تسحر الشیء الذی تسمیه أو تبطل سحره، ومن ثم کان حدیثه عن سحر ملکه الخیال، وقوله إن «الساحر شاعر» کما أن الشاعر ساحر. ففی مقدوره أن یجعل المأخوذین أو المسحورین بکلامه یتصورون الشیء ویعتقدون فیه ویحسون به کما یرید لهم أن یفعلوا. وکل هذا یشهد على خیالٍ متسلط (دکتاتوری) أو خیالٍ طاغٍ مبدع، سیتکرر حدیثنا عنه فیما بعدُ، هذا الخیال هو أعظم ما فی الوجود، وأعظم ما فی العقل، وهو مستقلٌّ عن المنبهات والمؤثرات الخارجیه؛ ولذلک کانت لغته «لغهً ذاتیه» لیس من هدفها الإفاده أو التوصیل. إن الأمر مع لغه الشعر کالأمر مع «الصیغ الریاضیه التی تؤلِّف عالمًا مستقلًّا بنفسه، وتؤدی الأدوار مع نفسها وحسب.» وهذه اللغه معتمهٌ غامضه إذ قد یحدث للشاعر فی بعض الأحیان ألا یفهم نفسه، ویرجع هذا إلى اهتمامه «بالأحوال النفسیه الموسیقیه، وتتابع سلسله الأنغام والتوترات التی تتعلق بمعانی الکلمات.» صحیح أن الشاعر یسعى إلى أن یفهمه الناس بعض الفهم ولکنه الفهم الذی لا یقدر علیه إلا العارفون. وهؤلاء العارفون لا ینتظرون من الأدب تلک الصفات التی تطلق عاده على أنواعه المنحطه؛ أی الصواب، والوضوح، والصفاء، والکمال، والنظام.» ذلک لأن هناک صفاتٍ أسمى کالتجانس والانسجام وتوافق الأنغام. ثم ینتقل نوفالیس نقلهً حاسمه عندما یقرر ما یشبه أن یکون قانونًا للشعر الحدیث؛ وأعنی به الفصل بین اللغه والمضمون لصالح الأولى: «قصائد منسجمه النغم، ولکنها کذلک خالیه من أی معنًى أو ترابط، لا یفهم منها إلا بعض المقطوعات المفرده، کأنها مجرد شذرات من أشیاء مختلفه.» سحر اللغه إذن من حقه — لکی یضفی الروح السحریه على العالم — أن یحطم هذا العالم إلى نتف وشذرات. ومن ثم یصبح الغموض والتفکک وعدم التماسک شروطًا ینبغی توافرها فی الإیحاء الشعری. «إن الشاعر یحتاج اللغه، کما یحتاج الموسیقی إلى أصابع البیان.» وهو ینتزع منها قوًى وطاقات لا تعرف عنها لغه الکلام العادی شیئًا (سنلاحظ فیما بعدُ أن مالارمیه یتحدث عن «بیانو الکلمات»). ثم یقول نوفالیس فی معرض هجومه على الأدب القدیم الذی کان «یضع ذخیرته فی نظامٍ یسهل إدراکه»: «أکاد أقول إن الاضطراب والاختلاط chaos یجب أن یتخلل کل أنواع الأدب.» «فالأدب الجدید یؤدی إلى الإغراب الکامل.» لکی یتسنى له الارتفاع بنا إلى «الوطن الأعلى». وطبیعه عمله شبیهه بعمل المحلل بالمعنى الریاضی، وهی استنباط المجهول من المعلوم. أما من ناحیه الموضوع فإن الخلق الأدبی یخضع للمصادفه کما یخضع من ناحیه المنهج للتجریدات الجبریه التی تقترب من تجریدات الحکایه الخرافیه، أعنی من ناحیه تحررها من قیود العالم المألوف الذی «یعانی من الوضوح الشدید.» عالم الباطن المحاید بدلًا من الوجدان، الخیال مکان الواقع، حطام العالم لا وحدته، المزج بین العناصر المتنافره، الاضطراب والاختلاط، التأثیر السحری عن طریق الغموض وسحر اللغه، التفکیر المتعقل الرزین الشبیه بالتفکیر الریاضی، الإغراب لکل مألوف ومعتاد، تلک على التحدید هی عناصر البناء الذی سیؤکده بودلیر فی نظریته فی الشعر، ویبدع رامبو ومالارمیه والشعراء المعاصرون شعرهم على أساسه. وسوف یظل هذا البناء صحیحًا فی جملته وإن تغیر فیه هذا العنصر أو ذاک، أو أضیفت إلیه عناصرُ أخرى لم تکن فیه. ونستطیع أن نختم هذا کله ونکمله بعبارات لناقد الحرکه الرومانتیکیه الألمانیه الکبیر «فریدریش شلیجل» تدور حول فصل قیمه الجمال عن قیم الصدق والأخلاق (وهو شیء لم یکن لیرضاه الأدب الکلاسیکی القدیم أبدا!) والضروره الشاعریه التی تقضی بوجود الاضطراب والاختلاط، ثم حدیثه عن التطرف والغرابه والوحشیه بوصفها من شروط الأصاله الشعریه. والمهم أن الفرنسیین عنوا بقراءه نوفالیس وشلیجل اللذین أثرا على الحرکه الرومانتیکیه الفرنسیه وأوحیا إلیها بعدد من أفکارها الرئیسیه. وما دمنا قد ذکرنا هذه الحرکه فلا بد من حدیثٍ قصیر عنها یوضح مدى تأثیرها على بودلیر، أول الشعراء العظام فی العصر الحدیث، وأول مُنظِّر للشعر الأوروبی والإحساس الفنی منذ أکثر من قرن من الزمان. (۵) الرومانتیکیه الفرنسیه انطفأت شعله الرومانتیکیه الفرنسیه «کموده» أو بدعهٍ أدبیه فی منتصف القرن الماضی، ولکنها ظلت قدرًا یحدد مصیر الأجیال المتأخره، حتى تلک الأجیال التی عملت على القضاء علیها وإحلال موداتٍ أخرى محلها. وسقطت عنها کل مظاهر التطرف والبهرجه والتظاهر والتفاهه الرخیصه. غیر أن الوعی الذی بدأ یتغیر من منتصف ذلک القرن ویتخلَّص شیئًا فشیئًا من الروح الرومانتیکیه ظل یلجأ إلیها کوسیله للتعبیر، کانت ظواهر الشذوذ والنشاز التی تحدثنا عنها فی الفصل السابق کامنه فی أنغامها المتجانسه کمون البذره فی الثمره. کتب بودلیر فی سنه ١٨۵٩م یقول: «إن الرومانتیکیه برکه من السماء أو من الشیطان، وقد ترکت فینا جروحًا لن تندمل أبدًا.» وهذه العباره تؤید ما قلناه من أن الأجیال التی جاءت بعد الرومانتیکیه لم تسلم منها، فقد أبت وهی فی ساعه الاحتضار إلا أن تترک علیهم آثارها الدامیه. صحیح أنهم ثاروا علیها، ولکنهم فعلوا ذلک لشعورهم بأنهم واقعون فی أسرها؛ لذلک لا نغالی إذا قلنا على سبیل المفارقه إن الأدب الحدیث رومانتیکیه تخلَّصت من الرومانتیکیه أو أرادت أن تتخلص منها. إن المراره والقتامه ومذاق التراب والخراب کلها من التجارب الأساسیه التی تفرض نفسها على الرومانتیکی کما ینمیها هو فی نفسه. ولقد کان الفرح والسعاده بالنسبه للحضاره القدیمه والحضارات التالیه لها حتى القرن الثامن عشر یمثلان القیمه النفسیه الرفیعه التی تدل على کمال حکمه الحکیم، وإیمان المؤمن، وبساله الفارس، وحنکه السیاسی، وثقافه المثقف. وکان الحزن والکآبه — اللهم إلا أن یکونا شیئًا عارضًا — یمثلان الفساد والانحراف، بل لقد کان رجال الدین یعدونهما خطیئهً کبرى. ثم تغیرت الحال منذ بدأ الإحساس بالعذاب والألم یسود الوجدان الغربی فی المرحله السابقه على الرومانتیکیه فی القرن الثامن عشر. تراجعت السعاده والفرح من الأدب، وحلَّت مکانهما الکآبه والعذاب الکونی. وراحت هذه الکآبه وهذا الإحساس الأسیان بالعذاب یستمدان غذاءهما من نفسهما، وسرعان ما أصبحا من علامات السمو والنبل الروحی. إن شاتوبریان الرومانتیکی الأصیل یکتشف الکآبه التی لا سبب لها ولا تتعلق بموضوعٍ خارجی، ویجعل من «علم القلق والأحزان» غایه الفنون، ویفسر التمزق النفسی بأنه نعمه من نعم المسیحیه. وینتشر هذا الشعور بالانحلال والانهیار، ویصبح نبعًا ینساب فی قلوب هؤلاء المعذَّبین، ینهلون من مائه الدامی ویتلذَّذون بغرائبه ومفارقاته. ولا تلبث اللهفه أن تتعلق بکل ما یتسم بالشذوذ والتحطیم والأجرام. ویصبح الشعر الغنائی فی إحدى قصائد ألفرید دی فینی (بیت الراعی) شکوى من أخطار التقنیه۴ التی تتهدد الروح. وتبدأ فکره العدم فی أداء دورها، فتنطلق لأول مره على لسان ألفرید دی موسیه الذی راح یعبر عن عواطف جیل من الشباب تحمَّس فتره من الزمن لنابلیون ثم وجد نفسه فجأه یصطدم بعالم من الوهم والعبث والخراب والصمت، عالم من العدم. ها هو ذا یکتب قائلًا: «إننی أومن بالعدم کما أومن بنفسی.» وأخیرًا تتحول الشکوى والکآبه إلى خوفٍ غامض من المجهول الفظیع. ویکفی أن نستشهد ببیت ورد فی إحدى قصائد جیراردی نیرفال التی تحمل عنوانًا یشذ عن مضمونها (أبیات ذهبیه، ١٨۴٠م): «خف نظره فی الجدار الأعمى تتلصص علیک.» وسوف نرى کیف تستمر هذه المشاعر کلها فی قصائد بودلیر، وکیف تتغیر وتتحول بالتدریج … ویتأثر الرومانتیکیون الفرنسیون بالنماذج الألمانیه فی تفسیرهم لطبیعه الشعر والشعراء. فالشاعر عندهم کاهن فی معبد الفن المقدس، ونبی وعرَّاف لا یفهمه أحد. والشعراء یؤلِّفون حزبًا یعارض جماهیر الطبقه الوسطى (البرجوازیه) ثم یؤلفون فیما بینهم أحزابًا یعارض بعضها البعض. وتفقد العباره المشهوره التی صاغتها الناقده التی اشتهرت برحلتها فی ألمانیا وکتابتها عن الأدب الألمانی، مدام دی ستایل، وهی أن الأدب هو التعبیر عن المجتمع؛ تفقد هذه العباره معناها. ویتکرر فی الأدب ما حدث فی الثوره من احتجاج على المجتمع القائم، ویصبح أدب الرفض أو أدب «المستقبل»، وأخیرًا یصبح أدب انعزال فخورًا بوحدته وانفراده. وتتحقق فکره روسو من أن الأصاله فی الأدب تعتمد على الشذوذ والغرابه فتؤمن بها هذه الأجیال والأجیال اللاحقه. ما من شک فی أن تجارب العذاب والألم والکآبه والعدمیه التی تغنى بها الشعراء کاذبین أو صادقین قد أطلقت کثیرًا من طاقاتهم الکامنه، وأدَّت للشعر نفسه خدماتٍ جلیله، فلقد ازدهر الشعر الفرنسی فی ظل الحرکه الرومانتیکیه وبلغ قمه مجده الذی استمر قرابه ثلاثه قرون. والذی یقرأ هذا الشعر سیجد فیه أشیاءً رائعه لا یقلل من روعتها أنها لم تنتشر على صعید القاره الأوروبیه. لقد استفاد من تلک الفکره التی ذاعت فی کل مکان من أن الشعر هو اللغه الأولى أو اللغه الأم للبشریه، اللغه الشامله للذات الشامله التی لا تعرف حدودًا فاصله بین المواد والموضوعات، ولا تعرف کذلک الحدود الفاصله بین الحماس الدینی والحماس الشعری. وقد استطاع الشعر الرومانتیکی فی فرنسا أن یعمق التجارب الباطنه ویلوِّنها، ویتأثر تأثرًا خلَّاقًا بالأجواء الغریبه فی بلاد الجنوب وبلاد الشرق، ویبدع أجمل الشعر وأرقَّه فی الحب ووصف الطبیعه، ویثبت قدرته الفائقه على التمکن من الصنعه. سنحسُّ بهذا الشعر الخطابی الخصب الذی یومض کاللهب عند فیکتور هیجو، وسنرى مع ذلک أنه قد یوفَّق، فی أحیانٍ کثیره إلى التعبیر عن لواعج الباطن، توفیقه فی رسم صورٍ نابضه بالحیاه. وسنجد فی شعر موسیه مزیجًا من التهکم المریر والألم الدفین، وفی شعر لامارتین عذوبه النغم الصافی الذی وصفه بأنه ناعم الملمس کالقطیفه. ولو أردنا أن نفتش هنا عن بدایات الشعر الحدیث والمعاصر لوجدناها فی الاهتمام باللغه، والبحث عن الطاقات الکامنه فی الکلمه. إن فیکتور هیجو لم یکتفِ بتطبیق هذا على شعره بل حاول أیضًا أن یبرره ویثبته مستعینًا بعددٍ کبیر من الشعراء السابقین علیه. اقرأ مثلًا هذه العباره من تأملاته contemplations: «الکلمه کائنٌ حی، وهی أقوى ممن یستخدمها؛ إنها وهی التی خرجت من الظلام تخلق المعنى الذی تشاؤه، إنها هی ما ینتظره منها الفکر والرؤیه والعاطفه فی الخارج وأکثر منه أیضًا، هی اللون، واللیل، والفرح، والحلم، والمراره، والمحیط، واللانهایه، إنها کلمه الرب …» وسوف یکون علینا أن نذکر هذه العباره کما نذکر عباراتٍ أخرى جاءت على لسان دیدرو ونوفالیس إذا أردنا أن نفهم فکره مالارمیه عن قدره اللغه على المبادره والمبادأه، وإن کنا سنجد عند مالارمیه من الضبط والإحکام ما لم نجده فی عباره هیجو المتوهجه بالحماس. (۶) الشذره والمسخره ربما بدا عنوان هذه الفقره غریبًا منفِّرًا، ولکنه یدل على فکرتَین من الأفکار الرئیسیه فی مفهوم الشعر الحدیث. ونبدأ بنظریه المسخره (أو الجروتیسک) التی شرحها فیکتور هیجو فی المقدمه المشهوره التی کتبها لمسرحیته «کرومویل (١٨٢٧م)». والنظریه جزء من نظریته فی الدراما، وتعدُّ فی الحقیقه من أعظم ما أضافته الرومانتیکیه الفرنسیه. ولعل جذورها أن تکون ممتده فی أقوال فریدریش شلیجل عن الدعابه والتهکم اللذین تتصل بهما معانٍ أخرى تحدَّث عنها أیضًا مثل الاختلاط (الکاوس)، والخفه الأبدیه، والتهریج المتعالی (الترنسندنتالی) وطابع الجزئیه أو الشذره. ذلک شیء نُرجِّحه ولا نقطع به، اعتمادًا على ما قلناه من تأثر الرومانتیکیین الفرنسیین بجیرانهم الألمان، وبخاصه نوفالیس وشلیجل. مهما یکن من شیء فقد ومضت فی مقدمه فیکتور هیجو (وکان عمره إذ ذاک خمسه وعشرین عامًا) بعض الخواطر الأصیله التی تنبئ بأحد المظاهر الرئیسیه فی الشعر الحدیث وإن کان من الواجب مع ذلک ألَّا نقیسها بمقیاسٍ عقلیٍّ دقیق، ونقصد بذلک خواطره عن السخریه والمسخره. وقد کانت کلمه المسخره فی بدایه الأمر تعبیرًا یرد فی لغه الرسامین للدلاله على الزخارف التی کانت ترسم على هامش اللوحات أو التهاویل التی تمثل ما یشبه الإطار المحیط بها وتُصوِّر فی الغالب موضوعاتٍ خرافیه. ثم اتسع مفهوم الکلمه منذ القرن السابع عشر وانتشر فی مجالات الأدب والفن المختلفه فأصبحت تدل على کل غریب أو عجیب أو مضحک أو مشوَّهٍ تشویها یبعث على السخریه. کان هذا هو الذی فعله فیکتور هیجو، ولکنه زاد على هذه المعانی کلها معنى القبح. فهو لم یتوسَّع فی نظریته عن المسخره فحسب، بل سوَّى بین الجمال والقبح، وتلک فی الحقیقه هی أهم خطوه خطاها الشاعر الفرنسی، وکان لها بعد ذلک أبعد الأثر فی نظریه الشعر الحدیث، ففکره القبح التی کان یُنظَر إلیها نظره الإزراء ولا یُسمح بها إلا فی الأنواع الأدبیه المنحطَّه أو على هامش الفنون التشکیلیه؛ قد ارتفعت قیمتها حتى أصبحت قیمهً میتافیزیقیه. وفیکتور هیجو یصدر فی هذا کله عن فکرته عن العالم الذی یراه فی حقیقته منقسمًا على نفسه إلى أضدادٍ متصارعه، کما یرى أنه لا یتحد مع نفسه إلا بفضل هذا الصراع بین الأضداد. والفکره قدیمه قدم هیراقلیطس، ولکن الذی یضیفه شاعرنا هو الدور الجدید الذی تقوم به فکره القبح فی نظریته؛ فلم یعد القبح قیمهً مضاده للجمال، بل أصبح عنده قیمهً مستقله بنفسها، تظهر فی العمل الفنی على صوره المسخره، أی على صوره کیانٍ ناقصٍ مشوَّهٍ متنافر. والنقص کما یقول هیجو: «هو أنسب وسیله لتحقیق الانسجام.» وإذن ففکره التجانس قد غیرت مدلولها القدیم بحیث أمکن أن یدخل فیها التنافر وعدم الانسجام، ونقصد به تنافر الأجزاء أو الشذرات الناقصه، ووظیفه المسخره أن تریحنا من الجمال وتجنبنا رتابته «بصوتها الزاعق». إنها تعکس على مرآتها ذلک التنافر أو النشاز القائم بین المراتب الحیوانیه والمراتب الإنسانیه العلیا، وتشوه الظواهر أو تفتتها إلى قطعٍ متناثرهٍ معبِّره عن أن «الکل العظیم» لا یمکن أن یدرک إلا على صوره شذرات؛ لأن إدراک الکل یتعارض مع طبیعه الإنسان. ولکن ما هو هذا الکل؟ الغریب أن فیکتور هیجو لا یجیب على هذا السؤال أو یجیب عنه إجابهً مضطربه. ولعله أراد أن یجیب عنه إجابهً مسیحیه، کأن یقول مثلًا إنه العلو (أو الترانسندنس) الخالی من کل حقیقه. المهم أنه لا یرى منه إلا حطامه الذی یتبدَّى له على هیئه نتفٍ ممزَّقه تثیر المسخره وإن کانت لا تثیر الضحک ولا تتصل به، ولو کان فیه شیء یضحک لکان ضحکًا أقرب إلى التهجم والفزع والتکشیر عن الأنیاب؛ ضحکًا من ذلک النوع الذی یبعث على الإحساس بالقلق والتوتر الذی تتطلع إلیه النفس الحدیثه أکثر مما تتطلع للهدوء والراحه والاستقرار. تلک نظریاتٌ رومانتیکیه سنجدها بعد سنواتٍ قلیله عند کاتب مثل تیوفیل جوتییه. إنها بعض من هذه الجراح التی تحدث عنها بودلیر وذکرناها فی الصفحات السابقه. وهی تمهد الطریق على کل حال لقصائد فیرلین عن المهرجین، ولکثیر من شعر رامبو وترستان کوربییر، کما تشیر إلى «المزاج الأسود» الذی عرف عن السریالیین وسلفهم لوتریمو، وإلى کل ألوان العبث والمحال التی نلمسها لدى المعاصرین. وهی إن دلت على شیء فإنما تدل على الحقیقه الشامله المتعالیه (أو ما یعرف فی لغه الفلسفه بالترانسندنس)۵ التی استحالت عند المحدثین إلى شذراتٍ ممزقه وألوان وأنغامٍ متنافره، فلم یعد أحد یعتقد بکلیتها وشمولها أو یؤمن بانسجامها وتجانسها. ١ راجع فی هذا القصیده نفسها، ١۵٠ قصیده أوروبیه، نشره ستانلی برتشو، مجموعه کتب بنجوین، ١٩۶٠م — المقدمه … Burnshaw, St. (Editor), The Poem itself, 150 European Poems, translated and analysed, London, 1960. ٢ Le Neveu de Rameau. ٣ راجع فی هذا کله: نوفالیس، الأعمال الأدبیه، مجموعه روفولت الکلاسیکیه، هامبورج ١٩۶٣م. Novalis, Dichtungen, Rowohlts Klussiket, Band II, Hamburg, 1963. وکذلک مختارات من أعماله (ومن أهمها الشذرات) اختارها وقدم لها أستاذنا المرحوم فالترریم. ۴ أی أخطار الحضاره الآلیه والصناعیه أو التکنیک. ۵ راجع إن شنت کتابی «مدرسه الحکمه» لتجد فیه فصلًا عن الترانسندنس أو المتعالی بعنوان «تعلموا أن الإنسان یعلو على الإنسان» (دار الکاتب العربی، ١٩۶٩م).